التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
نهاية فتوح الشام في عهد أبي بكر الصديق مقال لسهيل طقوش يستكمل فيه تحليل أحداث ووقائع الفتوح ومنها فتح تدمر وفتح القريتين وحوارين وفتح بصرى ومعركة
بعد أن جيَّش أبو بكر الصديق رضي الله عنه الجيوش في المدينة وأرسلها الى بلاد الشام لفتحها، لقي المسلمون هزيمةً في معركة مرج الصفَّر ممَّا دفع بأبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى تغيير خطَّته، فأرسل الى خالد بن الوليد رضي الله عنه في العراق بأن يذهب إلى بلاد الشام وتولِّي القيادة العامَّة للجيش هناك، وبالفعل ترك خالدٌ رضي الله عنه العراق وذهب لبلاد الشام في قوَّةٍ من جنده وتولَّى القيادة العامَّة للجيش الإسلامي.
فتح تدمر:
كانت تدمر من المراكز العسكريَّة المحصَّنة فحاصرها المسلمون من كلِّ جانب وقد تحصَّن بها أهلها فهدَّدهم خالدٌ رضي الله عنه، وقد أصرَّ على فتحها، ويبدو أنَّهم أدركوا حرج موقفهم في ظلِّ غياب الدعم البيزنطي فمالوا إلى طلب الصلح وفتحوا أبواب مدينتهم للمسلمين[1].
فتح القريتين [2] وحوارين [3]:
واصل المسلمون سيرهم حتى وصلوا إلى القريتين فاعترضهم أهلها، وجرى اشتباكٌ بين الطرفين أسفر عن انتصار المسلمين، ثُمَّ مرُّوا بحوارين فتحصَّن أهلها وراء أسوارهم وطلبوا مساعدةً عاجلةً من المدن والقرى المجاورة، فجاءهم جيشان الأوَّل من بعلبك والثاني من بصرى، يبلغ عديدهما أكثر من أربعة آلاف مقاتل، لكنَّ المسلمين اصطدموا بهما قبل أن يصلا وشتتوهما، واضطرَّ أهالي حوارين إلى قبول الصلح[4].
توجَّه المسلمون بعد حوارين باتِّجاه الجنوب قاصدين غوطة دمشق، فاعترضتهم قبيلة غسَّان بقيادة الحارث بن الأيهم، وجرى اشتباكٌ بين الطرفين أسفر عن انتصار المسلمين، وتراجعت غسَّان إلى حصون دمشق، وواصل المسلمون تقدُّمهم حتى بلغوا الثنية ووقفوا على التلِّ المعروف بهذا الاسم ونشروا عليه الراية السوداء المسمَّاة بالعقاب وهي راية النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا سُمِّي المكان بثنية العقاب[5]، وأغاروا على بعض قرى الغوطة، وعسكروا أمام الباب الشرقي لدمشق على دير صليبا، وفي روايةٍ أنَّ خالدًا رضي الله عنه عسكر على باب الجابية الغربي، وأجرى مباحثاتٍ مع أسقف المدينة وعامِل هرقل منصور بن سرجون أسفرت عن معاهدة صلح، وكتب خالدٌ رضي الله عنه كتاب الصلح "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانًا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يُهدم، ولا يُسكن شيءٌ من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء والمؤمنين، لا يُفرض لهم إلَّا بخيرٍ إذا أعطوا الجزية"[6]. والواضح أنَّ دمشق لم تكن هدف خالد الآني؛ إنَّما أراد أن يحمي مؤخرة جيشه عندما يستأنف الزحف باتجاه الجنوب.
اجتاز المسلمون الغوطة من الشمال إلى الجنوب حتى وصلوا إلى قناة بصرى، وكانت لا تزال بأيدي البيزنطيين وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد رضي الله عنهم[7]، فاجتمعت الجيوش الإسلاميَّة الأربعة أمامها، ويُذكر بأنَّ خالدًا رضي الله عنه قطع المسافة بين الحيرة وبصرى في ثمانية عشر يومًا.
فتح بصرى:
في ظلِّ هذه الظروف ومع تنامي خطر الاصطدام مع البيزنطيين، حاول خالدٌ رضي الله عنه أن يأخذ زمام المبادرة في الوقت الذي كان فيه عمرو بن العاص رضي الله عنه يتراجع بمحاذاة الضفَّة الغربيَّة لنهر الأردن، يرهقه جيش تيودور، ووجد نفسه أمام خيارين:
الأوَّل: تجميع الجيوش الإسلاميَّة الأربعة في بصرى بعد الإيعاز إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه بالإسراع نحوهم والانضمام إليهم، ثُمَّ انتظار جيش أنطاكية البيزنطي الزاحف باتجاه الجنوب بقيادة وردان حاكم حمص، والاشتباك معه في ذلك المكان.
الثاني: الإسراع لنجدة عمرو بن العاص رضي الله عنه والاشتباك مع جيش تيودور، حتى إذا فرغوا منه عادوا ليُقاتلوا جيش أنطاكية، بعد أن يكونوا قد ضمنوا مؤخرتهم ووطَّدوا أقدامهم في فلسطين[8].
تقرَّر اعتماد الخيار الثاني وهو الأخطر والأصعب، وترتَّب على هذا الاختيار فتح بصرى أوَّلًا للانطلاق منها نحو الهدف، لذلك شدَّد المسلمون الحصار عليها وأجبروا أهلها على طلب الصلح، فكانت أوَّل مدينة فُتحت صلحًا في بلاد الشام، وأوَّل جزية وقعت في هذا البلد في عهد أبي بكرٍ رضي الله عنه، وفقًا لرواية البلاذري[9].
معركة أجنادين:
ارتدَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه نحو أجنادين الواقعة بين الرملة وبيت جبرين، وتوقَّف فيها ينتظر وصول جيش تيودور الذي كان يتقدَّم نحوه متمهِّلًا وهو مطمئنٌّ إلى قوَّته وضعف عدوِّه، فوصل -أيضًا- إلى هذه البلدة، وانضمَّ إليه نصارى العرب وأهل الشام آملين أن ينالوا نهائيًّا من المسلمين ويُخرجوهم من فلسطين، وكان مثل هذا العمل سيُؤدِّي إلى إحراج المسلمين المنتشرين في المناطق الواقعة شرق البحر الميت ونهر الأردن، ووضعهم في موضعٍ مكشوفٍ على نحوٍ يُنذر بالخطر؛ إذ كانت القوى الإسلاميَّة بعيدةً عنهم، ولعلَّ وردان الذي تُشير إليه بعض الروايات على أنَّه كان القائد العسكريُّ في حمص كان -أيضًا- في القيادة.
عقد خالد بن الوليد رضي الله عنه مجلسًا عسكريًّا عندما علم بزحف البيزنطيين تقرَّر فيه تجميع القوى الإسلاميَّة والصمود في أجنادين، وجرى اللقاء في هذه البلدة يوم السبت في (27 جمادى الأول 13هـ/ 30 يوليو 634م) دارت فيه الدائرة على القوَّات البيزنطيَّة[10].
كانت معركة أجنادين مكشوفة وأدَّت إلى جعل البيزنطيين أقلَّ حماسةً عمَّا كانوا عليه من قبل لمجابهة المسلمين في الأماكن المكشوفة، والواقع أنَّ الخوف كان يسبق القتال المكشوف،واندلع القتال بعد ذلك في أماكن هي أقرب إلى خطوط المواصلات البيزنطية، وقد نال المسلمون حريَّةً نسبيَّةً مكَّنتهم من فتح معظم المدن دون مقاومة وشلِّ حركة المواصلات بين المدن.
اضطرَّت القيادة البيزنطيَّة إلى تغيير خططها العسكرية، بالاعتماد على المدن المحصَّنة كقواعد حمايةٍ لجنودها، والانطلاق لمناوشة المسلمين مع تجنُّب خوض معارك مكشوفة، ممَّا قلَّص حركيَّة القوى البيزنطيَّة وجعل المبادرة بيد المسلمين؛ إذ إنَّ توزيع القوى في مدنٍ مستقلَّةٍ حال دون التعاون فيما بينها حيث شُغلت كلُّ مدينةٍ بالدِّفاع عن نفسها، وأضعف قدرتها على مجابهة خصومها، وخلقت في نفوس سكَّانها عقليَّةً دفاعيَّة، ومع ذلك فقد كانت هزيلة ممَّا يسَّر للمسلمين فتحها كما سنرى، وكان هرقل قد جمع سكَّان دمشق وأمرهم أن يقفلوا الأبواب إقفالًا وثيقًا، وأن يأتمروا بأمر القائد الذي سيُعيِّنه عليهم، وشجَّعهم على الاهتمام بالدفاع عن أنفسهم.
بعد أجنادين:
اختلف الرواة والمؤرِّخون حول ما حصل بعد أجنادين، ويقول الطبري في ذلك: "ومن الأمور التي تُستنكر وقوع مثل هذا الاختلاف الذي ذكرته في وقته لقرب بعض ذلك من بعض"[11]، ويُمثِّل التاريخ الحولي للأحداث التي سوف أتحدَّث عنها إحدى المشكلات التي لم يجر التَّوصُّل إلى حلٍّ لها في تاريخ صدر الإسلام، والروايات الواردة عند المؤرِّخين المسلمين متناقضةً فيما بينها، وسوف انتهج خلال هذا البحث الترتيب الذي أراه أقرب إلى الصحَّة والواقع من خلال النقد التاريخي للمصادر كلَّما أمكن ذلك.
يروي الأزدي أنَّ خالدًا رضي الله عنه سار بالمسلمين بعد أجنادين إلى دمشق[12]، وذكر المدائني وسيف أنَّه بعد أجنادين كانت اليرموك ثُمَّ دمشق وفحل معًا[13]، في حين تذكر رواياتٌ كثيرةٌ أخرى إنَّه بعد أجنادين كانت فحل بالأردن[14]، غير أنَّ منطق الأحداث من خلال ترجيح الروايات التي أوردها الأزدي بفعل أنَّها أوثق بصفةٍ عامَّة -كما أنَّها مقبولة- يحملنا على الاعتقاد بأنَّ المسلمين قصدوا دمشق بعد أن انتهوا من معركة أجنادين.
الاصطدام في مرج الصفَّر:
توجَّه المسلمون إلى دمشق بعد أن فرغوا من أجنادين عبر الجولان، ولمـَّا وصلوا إليها ضربوا عليها حصارًا مركَّزًا، فعكسر خالدٌ رضي الله عنه تجاه دير صليبا، الذي عُرِف فيما بعد بدير خالد، وهو على مسافة ميلٍ من الباب الشرقي، وعسكر أبو عبيدة رضي الله عنه على باب الجابية في حين نزل يزيد رضي الله عنه على جانبٍ آخر من دمشق[15]، ولم يشترك جيش شرحبيل رضي الله عنه في الحصار، ويبدو أنَّه بقي في الجنوب لحماية مؤخرة المسلمين.
كان هرقل لا يزال يحشد قوَّاته ويدفعها لقتال المسلمين، فأرسل جيشًا بلغ تعداده خمسة آلاف مقاتل بقيادة درنجار[16] لمساعدة أهل دمشق، وانضمَّ إليه عددٌ كبيرٌ من حامية حمص، فاضطرَّ المسلمون أن يُخفِّفوا الضغط عن دمشق، وساروا نحو مرج الصفَّر لاعتراض القوَّة البيزنطيَّة التي لا بُدَّ وأن تمرَّ من هذا المكان للوصول إلى المدينة، وجرى قتالٌ بين الطرفين في (17 جمادى الآخرة 13هـ/ 18 أغسطس 634م)، أسفر عن انتصار المسلمين، فقتلوا عددًا كبيرًا من البيزنطيين وفرَّ من نجا من المعركة في كلِّ اتجاه[17].
عاد المسلمون بعد انتهاء المعركة إلى دمشق، فنزل خالدٌ رضي الله عنه على الباب الشرقي، وأبو عبيدة رضي الله عنه أمام باب الجابية، ويزيد رضي الله عنه على بعض أبوابها، وعمرو بن العاص رضي الله عنه على بابٍ آخر، وجاءهم -وهم على هذا الحال- نعي الخليفة أبي بكرٍ رضي الله عنه الذي تُوفِّي مساء الثلاثاء في (21 جمادى الآخرة 13هـ/ 22 أغسطس 634م) وعَزْل خالدٍ رضي الله عنه عن قيادة جيوش الشام، وتعيين أبي عبيدة رضي الله عنه بدلًا منه[18]، لكنَّ هذا الأخير أخَّر إشاعة نبأ العزل؛ لأنَّ المسلمين كانوا في صدد تحضير فتح دمشق، ولم يشأ أن يُحدث هذا التبديل أيَّ بلبلةٍ في صفوف الجيش الإسلامي، ولهذا كان هناك نوعٌ من الأزدواجية في الإمارة على الجيش لدى محاولة فتح دمشق.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
ـــــــــــــــــــ
[1] الأزدي: ص77، والبلاذري ص119.
[2] القريتين: قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية، وأهلها كلهم نصارى. الحموي:
4/336.
[3] حوارين: من قرى حلب. المصدر نفسه: 2/315.
[4] الأزدي: ص78، 79، والبلاذري: ص119.
[5] البلاذري: المصدر نفسه، والطبري: 3/410، 411. كان يزيد قد فكَّ الحصار عن
دمشق وعاد إلى بصرى لمساندة أبي عبيدة وشرحبيل.
[6] البلاذري: المصدر نفسه، والأزدي: ص83.
[7] الطبري: 3/417.
[8] سويد: ص271، 272.
[9] فتوح البلدان: ص120، والأزدي: ص81.
[10] الطبري: 3/418، وقارن بالبلاذري: ص121، ويذكر الواقدي أنَّ عدد جنود
الروم بأجنادين كان تسعين ألفًا، 1/66، وابن عساكر: 2/98، 99.
[11] تاريخ الرسل والملوك: 3/442.
[12] فتوح الشام: ص94.
[13] الطبري: 3/434، 435.
[14] المصدر نفسه.
[15] الأزدي: ص94-97.
[16] درنجار: رتبة عسكرية لقائد خمسة آلاف وليست اسمًا لشخص.
[17] الأزدي: ص95، 106، وقارن بالبلاذري: ص125.
[18] المصدران أنفسهما: ص98، ص122، وتاريخ خليفة بن خياط: ص65، والطبري: 3/419، 420، 434، 435.
التعليقات
إرسال تعليقك